قالوا عن أوبرا 40

غواية السرد وخطاب المضمر

في رواية أوبرا 40
قراءة نقدية للدكتور صارم داخل أحمد في الرابع من ديسمبر 2021م :
تشكل الرواية المعاصرة نظاماً سردياًّ وتعبيرياًّ متنامياً يعبر عن حالة الوعي الاجتماعي وتحولاته والعناصر الفاعلة في بنيته التي تؤثر في صيرورة اللحظة التاريخية الفارقة والتي ينتخبها المؤلف بقصدية لتأسيس نقطة انطلاق الحدث الروائي وغالباً ما تكون لحظة قدرية تقع بالصدفة لتؤكد عبثية الحالة الوجودية التي تمر بها شخوص الرواية ، لذا فالمنجز الروائي المعاصر هو أسلوب سردي خاص يعبر عن روح المجتمع وقيمه المتحولة من خلال توظيف اللغة والبنى المجاورة (الموروث الشعبي , العادات والتقاليد, الأساطير) وغيرها لانتاج صور متخيلة بشاعرية عالية لتوثيق حركة المجتمع بكل تناقضاته وأزماته التي تؤثر في تعزيز قيمه وهويته التاريخية ، لذا فقد اجتهدت الرواية المعاصرة في انتاج خطاب فكري وجمالي يحفز الفعل التأويلي للمتلقي فمن خلال توظيف تقنيات السرد المتداخلة والمتراكبة تمنح المتلقي القدرة على تفكيك المنجز الروائي للتوصل إلى جوهر وسر المنجز الروائي .
تمكن المؤلف (أحمد عبد الله الصانع) من خلق متاهات من الصور والأماكن والأحداث تؤشر وبوضوح القصدية الاستراتيجية للمؤلف الذي اجتهد في خلق عوالم من الدهشة والإبهار إزاء مفاجأة الأحداث وتنوعها لحظة ولادة الدولة العراقية في بداية القرن العشرين الذي شهد تلاشي إمبراطوريات ودول وظهور دويلات عدة على أنقاضها تسعى جاهدة لإثبات وجودها عبر بناء علاقات دولية ترسخ مكانتها بين الأمم ، وفي لجة النسق السردي المحتدم بالشخوص والأحداث العفوية يضع المؤلف نظام دلالي مضمر يتوارى خلف رموز وضعت في مواقع منتخبة بقصدية فكرية لتشكل فيما بعد خطاب الرواية المستقبلي متمثلاً بمنظومة العلاقات الاجتماعية التي اشتملت على الحب والكراهية ثم الزواج والولادة والموت ثم القفز نحو المستقبل ، تغوي رواية (أوبرا 40) القارئ لتتبع النسق السردي والحكايات المختلفة للأبطال وانتقالاتهم ما بين بغداد والموصل والبصرة ونجد وكذلك إسطنبول وباريس وميلانو ، ومن خلال هذه الغواية كان هناك نسق تم إخفاؤه بإتقان بالغ له دلالات مضمرة ذات خصوصية لن يتم الإفصاح عنها إلا عند اكتمال الحدث العام .

غواية السرد :
استخدم المؤلف (أحمد بن عبد الله الصانع) أسلوب سردي ساحر متأثراًّ بأسلوب السرديات المعاصرة والذي يعتمد الوثيقة والواقعة التاريخية لخلق بيئة حلمية سرمدية تتنقل فيها الشخصيات بين الأماكن والأزمنة وفقاً لحدث قدري يقع بالصدفة ، ففي الفصل الأول من الرواية يقع الحدث في مدينة بغداد ليلاً في جو ماطر تتعطل فيه سيارة البطلة (عالية) ابنة رئيس الوزراء (عبد المحسن بيك العود ) (السعدون) وهي طالبة جامعية تدرس في بيروت كانت في زيارة لإحدى قريباتها في بغداد فتعطلت سيارتها بطريق عودتها للبيت , يلاحظ (عبد الله) في شتاء عام 1930م وهو نائب وزير الداخلية ومحافظ بغداد آنذاك وأحد المخلصين لوالدها الذي شغل منصب رئيس وزراء العراق ومات منتحراً سنة 1929م نتيجة لضغوط سياسية من الإنكليز والقصر الملكي ، و بعد عودته من واجب معين لاحظ توقف سيارة على رصيف الشارع لفترة طويلة فترجل من سيارته الفارهة وسط المطر وذهب باتجاه السيارة المتوقفة لمعرفة أسباب توقفها ولابداء المساعدة : (مررت من هنا قبل فترة فكنت بداخل سيارتك ثم عدت بعد فترة فوجدتك ما زلت بداخلها لا أقصد التطفل عليك ولكن هل أمورك طيبة ياسيدتي ؟) ص16 .
كان بإمكان (عبدالله) وهو محافظ بغداد أثناء متابعته الوضع الأمني مع احتمالية حدوث فيضان في المدينة آنذاك ، كان بمقدوره أن يرسل أحد الدوريات لمعرفة سر توقف السيارة لمساعدتها إن دعت الحاجة ، ولكنه تصرف كفارس نبيل ، وهي إشارة لأصوله العربية البدوية والتي سوف تطبع كل سلوكه اللاحق وتودي به إلى سوء العاقبة .
عالية : (ممتنة لك سيدي لا أود أن أعطلك عن شؤونك في هذا الجو ) ص16 .
لقد شعرت (عالية) من خلال أسلوبه وهندامه أنه شخص مهذب ولكن وتحسباً لأي طاريء فقد كانت هراوة المرحوم والدها الغليظة حاضرة في الكرسي الخلفي لتستخدمها إذا دعت الحاجة لذلك ! وبعد أن استعلم (عبدالله) عن عطل السيارة عاينها ثم عاد لسيارته فأحضر عدة التصليح فلاحظ وجهه في المرآة الجانبية لسيارته فتذكر الحرب العالمية الأولى 1914م عندما تطوع للدفاع عن مدينته البصرة وأشار إلى قضية الجنود الهنود الذين كانوا طلائع الجيش البريطاني وقوته الضاربة التي كانت لا تحب المسلمين العثمانيين لمواقف تاريخية سحيقة (كان أغلب جنود الجيش البريطاني من معممي الطائفة السيخية الهنود وتم اختيارهم حتى لا تأخذهم الرحمة بالقوات العثمانية المسلمة بسبب عداء قديم في الهند بين الطائفتين السيخية والمسلمة منذ أيام حكام الهند المغول المسلمين).
يتنامى السرد تدريجيّاً وينتقل بين الأزمنة (عالية) تستذكر علاقاتها في جامعة بيروت وكيف أسست جمعية لمناصرة المرأة ، وأما (عبدالله) فقد استحضر أحداثاً من الماضي عندما تطوع للقتال دفاعاً عن (البصرة ) ضد البريطانيين قبل احتلالها في أكتوبر سنة 1914م ، وبعد محاولات إصلاح السيارة يكتشف (عبدالله) أن إطار السيارة مثقوب وهنا تظهر صفات الفروسية والنبل لكل من (عبدالله) و(عالية) حيث أصر (عبدالله) على متابعة (عالية) وهي تقود سيارتها بعد أن أصلحها من مسافة قريبة ليساعدها في حال تعطلت سيارتها مرة أخرى حتى تأكد من وصولها لبيتها بسلام ، أما (عالية) فقد أصرت هي الأخرى على ضرورة رد الجميل من خلال تعرف عائلتها عليه بواسطة أخيها (علي) رجل العائلة بعد الوالد الفقيد .
إن سلوك (عالية) لهو دلالة على ثقتها الكبيرة بنفسها فهي فتاة تتمتع بأصول كريمة وتربية عالية ولا تجهل الأصول وتعرف الواجب جيداً وحاولت جاهدة أن ترد له المعروف بشكره مع أهلها لشهامته ، وهنا ينتخب المؤلف لحظة قدرية حيث يتعرف أخوها (علي) على (عبدالله) كونه ذراع والده القوي الذي اعتمد عليه في مشروعه السياسي والإداري ، فيطلب منه بإلحاح شديد الدخول للمنزل للسلام على (الخاتون) الوالدة بعد غياب ثلاثة أعوام ، فهذا بيت (العود) الذي تعلم فيه كل شيء بعد والده أحمد باشا متصرف لواء البصرة ، وكان رئيسه (العود) نافذته المطلة على أسرار الحكم ، فانطلق الحدث واشتبكت الأحداث وتدخّل القدر لرسم طريق الشخصيات ، وكما هو متوقع في هذا الفصل فقد أوقعنا المؤلف في دائرة سحره وأصبح من الضروري أن نتابع قصة العشق التي سوف تحدث بين (عالية) و(عبدالله) ، وبعد أن تأكد (عبدالله) من حقيقة مشاعره تجاه (عالية) وكما هو متوقع فقد تقدم لخطبتها , فوضعت شرطها الأوحد والمستحيل وهو أن يطلب يدها من ملك العراق (فيصل الأول) ، كون (الملك) هو رأس البيت الهاشمي وهو راعي عائلة (عبد المحسن العود) ، فينصاع (عبدالله) لشرط (عالية) ويذهب لمقابلة الملك (فيصل) ويطلب منه يد(عالية) ، وبعد إجراء بعض الالتزامات الشكلية يتم الزواج ، ثم وفي أحد الأيام يتفجر غضب شيخ قبيلة العود نتيجة رفض القضاء في دولة الملك فيصل قضية استحواذ جده لأرض شاسعة بصورة غير قانونية فيزور الشيخ (ابن فالح) وهو أحد أبناء عمومة (عالية) زوجها (عبدالله بيك) في مكتبه بمتصرفية بغداد وبعد أن يدخل الشيخ (ابن فالح) ويشرب القهوة كأحد الضيوف يطلب من وكيل وزير الداخلية (عبدالله بيك) التوسط في قضية استعادة أرض جده فيسمع رد (عبدالله) برفض القضاء والملك فيصل لحجة الاستحكام الأصلية ، هنا أمر (ابن فالح) (عبدالله) بتطليق (عالية) فلما رفض (عبدالله) تطليقها أرداه قتيلاً غدراً بطلقات من مسدسه وجلس على الكرسي المقابل يدّخن سيجارته (ص 418) فيستعرض المؤلف طبيعة الحكم الهش وكيف كانت الدولة الفتية تدار بالترهيب والترغيب من قبل شيوخ العشائر إبّان الانتداب البريطاني فتهاجر عالية وعائلتها حينها لتركيا ثم تعود بعد نصف قرن من الزمان لزيارة قبر زوجها الراحل سنة (1980م) ثم تعود لتركيا حيث تنتقل إلى الرفيق الأعلى وتدفن هناك سنة (1987م) ص438 .

تمظهرات الخطاب المضمر في رواية أوبرا 40 :
تبقى الرواية أحد اشتقاقات الملحمة كون الرواية جنس أدبي يتمتع بالقدرة على نقل الواقع والتعرض لبؤرة الحدث الكبرى والتماهي خلف اتساقات سردية متداخلة لتمرير خطاب الرواية وقصديتها في الوجود بالتوازي مع ديناميكية الحكاية السردية إذ كان هناك خطاب مضمر يتوارى خلف صور وضعت بقصدية واضحة لبناء متن دلالي يحقق رؤيا المؤلف ، فكل شيء مقصود ولا يوجد أي شيء برئ في متن هذه الرواية ، حيث منح المؤلف لشخصياته جذراً اجتماعياً وفكرياً يضرب عميقاً في قلب البنية الاجتماعية العراقية ما بعد الحرب العالمية الأولى ، في بداية ظهور الممالك العربية بعد هزيمة العثمانيين وخروجهم من الشرق الأوسط ، وولادة المملكة العراقية عام 1921م من خاصرة الإرث العثماني ولم ينقطع الحبل السري بين المملكة العراقية والجمهورية التركية إذ كان معظم رجال الحكم وكبار موظفي البلاط من ضباط الجيش العثماني أو موظفي المؤسسة الإدارية العثمانية السابقين ، فكان (عبد المحسن بيك العود) (السعدون) هو الأنموذج العصي على المغادرة الحاضر بمبادئه التي تتناقل عبر الأجيال على الرغم من موته ، وصولاً إلى (عبد الله بيك العدل) الذي تشرب بالمبادئ الوطنية لأستاذه (عبدالمحسن بيك السعدون) ، (عالية) ابنة (عبد المحسن بيك السعدون) هي شخصية مختلطة العروق فوالدتها تركية ووالدها عربي كان ضابطاً في الجيش التركي برتبة نقيب تتغنى بالأنموذج التركي في تطبيق الشريعة الإسلامية والديمقراطية (قل هذا الكلام لربعك في نادي الضباط في بغداد ، لقد حفظ الدستور التركي حقوقنا وبارك الله بأبي الدستور والديمقراطية السيد مصطفى كمال) ص119.
(عبد الله بيك) زوج (عالية) قومي عربي تطوع في الجيش العثماني لمحاربة البريطانيين أثناء احتلال البصرة في أكتوبر عام 1914م وصار محافظ بغداد ووكيل وزير الداخلية أثناء دراسة (عالية) في الجامعة الأمريكية في بيروت تلك المدينة التي تعتبر مهد الفكر القومي العربي ما بعد الحرب العالمية الأولى ، فأسست (عالية) مع مجموعة من الطالبات العراقيات المبتعثات حزباً بغرض زيادة الوعي النسوي وهذه المجموعة تتكون من أربعة طالبات (مسلمة شيعية ، مسلمة سنية ، مسيحية ويهودية) ص14.
خلق المؤلف علاقة فكرية جدلية بين العرب القادمين من الصحراء (مملكة نجد) والحالمين بدولة عربية من المحيط إلى الخليج وبين إسلام الدولة العثمانية/التركية (المدني) وهذا النموذج هو النسق الفكري المشكّل للخطاب المضمر الذي يتوارى خلف المتن الحكائي وبنية السرد المتداخل , لقد أجهض (ابن فالح) الرجل العشائري المتمرد من  جنوب العراق هذا المشروع باغتيال (عبدالله) الرجل الحالم بوطن عربي كبير يضم الجميع بجميع أطيافهم ، ومن خلال تداخل القوى الضاغطة على قرار الحكم تم كشف بنية النظام السياسي الفاسد (نوري سعيد وفريق حكمه) والتي تعمل مع البريطانيين بعيداً عن الإرادة الملكية فيتم سجن (ابن فالح) وبعد سنة ونصف يتم إطلاق سراحه .
ثم ننتقل للمستقبل لنستعرض شبكة علاقات الملياردير التركي (إبراهيم بك) ، هي إشارة واضحة لظاهرة عصرنة الإسلام التي تعمل على فكرة أن الدين الإسلامي دين تعايش وسلام ومحبة وحياة .(هو من مناصري الجمهورية والدستور والعلمانية)ص182.
هناك قصة بداخل القصة وهي زواج الراوي (أحمد العدل) من (د.ياسمين) ابنة (إبراهيم بك الفاتح) وفيها إشارة واضحة لامتداد المشروع القديم بين ( صحراء نجد وتركيا) وربما تكون جسور محبة قد مدت لطي صفحة الماضي ، ونجد أحداث الجزء الثاني لأوبرا 40 المستقبلية في الفصل المحذوف (عاشق الياسمين) ص 475 المرتبطة بالأبطال الجدد (ياسمين) و(أحمد) ومغامراتهما وأسرتهما .
(عبد الله) و (عالية ) توضيح لقوة عشائر جنوب العراق في صناعة القرار السياسي العراقي وعرضها كقوة منفلتة لا تخضع لقوانين الدولة المدنية بقدر خضوعها للحلف العشائري .
وختاماً : كل النساء التركيات الجميلات يتزوجن من رجال عرب ! (علاقة المحبة القديمة بين العرب والأتراك دون النظر الى السياسة والدليل على ذلك زيارات العرب المتكررة إلى تركيا ) ص85 .

عرض صورة مثالية للحياة الاجتماعية في تركيا من خلال العلاقة بين (عبدالله) و(عالية) (المجتمع التركي يعتبر أكثر انفتاحاً من المجتمع العربي المنغلق بعاداته وتقاليده القديمة)ص301 .
(أنا لا افقه الكثير من عادات عشائر العراق مع حرص والدي الله يرحمه على شرحها لي وبصراحة هي لا تهمني كما تهم غيري) ص301 .
(هم حنابلة يا بني لذلك تجدهم متشددين ونحن أحناف نقبل غيرنا كما هم وليس مثلهم !) ص301 .
الإشارة الواضحة باعتبار الفرس غزاة يمثلون خطراً على العرب وفي المقابل هناك إشارة بتضحية الأتراك من أجل العرب (داوود باشا (والي بغداد) المتوفى سنة 1851م ولن ينسى له التاريخ دفاعه الباسل للذود عن حمى بغداد من الغزوات الفارسية المتكررة التي حاولت جاهدة احتلال بغداد الرشيد فهزمها ثلاث مرات متتالية ) ص318 .
رواية من 575 صفحة مليئة بالصور والمشاهد الشيقة التي تنقل القارئ للعيش في قلب تجارب وأحداث أبطال رحل أغلبهم وصلتنا ذكراهم العطرة عبر أدب نخبوي وموسيقى وأشعار وأغاني تردد عبر الزمن .

 

فيزور الشيخ (ابن فالح) وهو أحد أبناء عمومة (عالية) زوجها (عبدالله بيك) في مكتبه بمتصرفية بغداد وبعد أن يدخل الشيخ (ابن فالح) ويشرب القهوة كأحد الضيوف يطلب من وكيل وزير الداخلية (عبدالله بيك) التوسط في قضية استعادة أرض جده فيسمع رد (عبدالله) برفض القضاء والملك فيصل لحجة الاستحكام الأصلية ، هنا أمر (ابن فالح) (عبدالله) بتطليق (عالية) فلما رفض (عبدالله) تطليقها أرداه قتيلاً غدراً بطلقات من مسدسه وجلس على الكرسي المقابل يدّخن سيجارته (ص 418) فيستعرض المؤلف طبيعة الحكم الهش وكيف كانت الدولة الفتية تدار بالترهيب والترغيب من قبل شيوخ العشائر إبّان الانتداب البريطاني فتهاجر عالية وعائلتها حينها لتركيا ثم تعود بعد نصف قرن من الزمان لزيارة قبر زوجها الراحل سنة (1980م) ثم تعود لتركيا حيث تنتقل إلى الرفيق الأعلى وتدفن هناك سنة (1987م) ص438 .

تمظهرات الخطاب المضمر في رواية أوبرا 40 :
تبقى الرواية أحد اشتقاقات الملحمة كون الرواية جنس أدبي يتمتع بالقدرة على نقل الواقع والتعرض لبؤرة الحدث الكبرى والتماهي خلف اتساقات سردية متداخلة لتمرير خطاب الرواية وقصديتها في الوجود بالتوازي مع ديناميكية الحكاية السردية إذ كان هناك خطاب مضمر يتوارى خلف صور وضعت بقصدية واضحة لبناء متن دلالي يحقق رؤيا المؤلف ، فكل شيء مقصود ولا يوجد أي شيء برئ في متن هذه الرواية ، حيث منح المؤلف لشخصياته جذراً اجتماعياً وفكرياً يضرب عميقاً في قلب البنية الاجتماعية العراقية ما بعد الحرب العالمية الأولى ، في بداية ظهور الممالك العربية بعد هزيمة العثمانيين وخروجهم من الشرق الأوسط ، وولادة المملكة العراقية عام 1921م من خاصرة الإرث العثماني ولم ينقطع الحبل السري بين المملكة العراقية والجمهورية التركية إذ كان معظم رجال الحكم وكبار موظفي البلاط من ضباط الجيش العثماني أو موظفي المؤسسة الإدارية العثمانية السابقين ، فكان (عبد المحسن بيك العود) (السعدون) هو الأنموذج العصي على المغادرة الحاضر بمبادئه التي تتناقل عبر الأجيال على الرغم من موته ، وصولاً إلى (عبد الله بيك العدل) الذي تشرب بالمبادئ الوطنية لأستاذه (عبدالمحسن بيك السعدون) ، (عالية) ابنة (عبد المحسن بيك السعدون) هي شخصية مختلطة العروق فوالدتها تركية ووالدها عربي كان ضابطاً في الجيش التركي برتبة نقيب تتغنى بالأنموذج التركي في تطبيق الشريعة الإسلامية والديمقراطية (قل هذا الكلام لربعك في نادي الضباط في بغداد ، لقد حفظ الدستور التركي حقوقنا وبارك الله بأبي الدستور والديمقراطية السيد مصطفى كمال) ص119.
(عبد الله بيك) زوج (عالية) قومي عربي تطوع في الجيش العثماني لمحاربة البريطانيين أثناء احتلال البصرة في أكتوبر عام 1914م وصار محافظ بغداد ووكيل وزير الداخلية أثناء دراسة (عالية) في الجامعة الأمريكية في بيروت تلك المدينة التي تعتبر مهد الفكر القومي العربي ما بعد الحرب العالمية الأولى ، فأسست (عالية) مع مجموعة من الطالبات العراقيات المبتعثات حزباً بغرض زيادة الوعي النسوي وهذه المجموعة تتكون من أربعة طالبات (مسلمة شيعية ، مسلمة سنية ، مسيحية ويهودية) ص14.
خلق المؤلف علاقة فكرية جدلية بين العرب القادمين من الصحراء (مملكة نجد) والحالمين بدولة عربية من المحيط إلى الخليج وبين إسلام الدولة العثمانية/التركية (المدني) وهذا النموذج هو النسق الفكري المشكّل للخطاب المضمر الذي يتوارى خلف المتن الحكائي وبنية السرد المتداخل , لقد أجهض (ابن فالح) الرجل العشائري المتمرد من  جنوب العراق هذا المشروع باغتيال (عبدالله) الرجل الحالم بوطن عربي كبير يضم الجميع بجميع أطيافهم ، ومن خلال تداخل القوى الضاغطة على قرار الحكم تم كشف بنية النظام السياسي الفاسد (نوري سعيد وفريق حكمه) والتي تعمل مع البريطانيين بعيداً عن الإرادة الملكية فيتم سجن (ابن فالح) وبعد سنة ونصف يتم إطلاق سراحه .
ثم ننتقل للمستقبل لنستعرض شبكة علاقات الملياردير التركي (إبراهيم بك) ، هي إشارة واضحة لظاهرة عصرنة الإسلام التي تعمل على فكرة أن الدين الإسلامي دين تعايش وسلام ومحبة وحياة .(هو من مناصري الجمهورية والدستور والعلمانية)ص182.
هناك قصة بداخل القصة وهي زواج الراوي (أحمد العدل) من (د.ياسمين) ابنة (إبراهيم بك الفاتح) وفيها إشارة واضحة لامتداد المشروع القديم بين ( صحراء نجد وتركيا) وربما تكون جسور محبة قد مدت لطي صفحة الماضي ، ونجد أحداث الجزء الثاني لأوبرا 40 المستقبلية في الفصل المحذوف (عاشق الياسمين) ص 475 المرتبطة بالأبطال الجدد (ياسمين) و(أحمد) ومغامراتهما وأسرتهما .
(عبد الله) و (عالية ) توضيح لقوة عشائر جنوب العراق في صناعة القرار السياسي العراقي وعرضها كقوة منفلتة لا تخضع لقوانين الدولة المدنية بقدر خضوعها للحلف العشائري .
وختاماً : كل النساء التركيات الجميلات يتزوجن من رجال عرب ! (علاقة المحبة القديمة بين العرب والأتراك دون النظر الى السياسة والدليل على ذلك زيارات العرب المتكررة إلى تركيا ) ص85 .

عرض صورة مثالية للحياة الاجتماعية في تركيا من خلال العلاقة بين (عبدالله) و(عالية) (المجتمع التركي يعتبر أكثر انفتاحاً من المجتمع العربي المنغلق بعاداته وتقاليده القديمة)ص301 .
(أنا لا افقه الكثير من عادات عشائر العراق مع حرص والدي الله يرحمه على شرحها لي وبصراحة هي لا تهمني كما تهم غيري) ص301 .
(هم حنابلة يا بني لذلك تجدهم متشددين ونحن أحناف نقبل غيرنا كما هم وليس مثلهم !) ص301 .
الإشارة الواضحة باعتبار الفرس غزاة يمثلون خطراً على العرب وفي المقابل هناك إشارة بتضحية الأتراك من أجل العرب (داوود باشا (والي بغداد) المتوفى سنة 1851م ولن ينسى له التاريخ دفاعه الباسل للذود عن حمى بغداد من الغزوات الفارسية المتكررة التي حاولت جاهدة احتلال بغداد الرشيد فهزمها ثلاث مرات متتالية ) ص318 .
رواية من 575 صفحة مليئة بالصور والمشاهد الشيقة التي تنقل القارئ للعيش في قلب تجارب وأحداث أبطال رحل أغلبهم وصلتنا ذكراهم العطرة عبر أدب نخبوي وموسيقى وأشعار وأغاني تردد عبر الزمن .

زر الذهاب إلى الأعلى
Open chat
كيف اخدمك
للاستفسار عن أوبرا 40